محمد عبد العزيز سليم يكتب: جماليات “ملحمة المطاريد” اللغة والشخصيات والحوار

وجدتني منذ اللحظة الأولى لقراءتي رواية عمار علي حسن “ملحمة المطاريد”، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، واقعا في أسرها، لا استطيع فكاكا منها، إذ أحببتها منذ الوهلة الأولى، ورغم وقتي الموزع بين مهنة التدريس، وبين عملي في أرضي التي أفلحها، وبين حياتي الأسرية والتزاماتها؛ إلا أنني كنت أختلس بعض الوقت لألقاها بعيدا عن صخب البيت، وضجيج العمل. كان الشوق يدفعني إلى لقياها، لأغرق في نجواها في حالة من التطهر من قماءة الواقع، وعفنه المتراكم في كل زواياه.

أعلم أن المبدع الحقيقي في هذا العصر حين يخرج قيثارته الفنية ليعزف عليها إبداعا حقيقيا وأصيلا تتداعى عليه النواقيس المزعجة محاولة بضجيجها السمج أن تغطي على ذلك العزف النبيل، إلا أن الإبداع الحقيقي يظل كالذهب، مهما تراكم عليه الرغام تبقى قيمته وأصالته لا يقدرها إلا صاحب الذوق الشفيف والرؤية البصيرة بمواطن الجمال. ذلك ما وجدته في ذلك العمل الروائي الفذ الذي تتجلى جمالياته الفنية في كثير من عناصر الإبداع الروائي وتقنياته.

فالرواية تستعرض قصة الإنسان المصري على ضفاف النيل، وعلاقته بالأرض والبيئة والإنسان، عارضة لذلك الصراع والجدل الدائم بين الإنسان والمكان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، من خلال عائلتين كبيرتين تتنافسان على الهيمنة والنفوذ ومد جذورهما في أعماق المكان والزمان مما يعرضهما لتصادم مستمر تدور رحاه سجالا بينهما.

تحتشد في الرواية الكثير من عناصر الإبداع الروائي، فمن حيث اللغة: جاءت لغة الرواية في عنصري السرد والحوار عربية فصيحة طارحة وراء ظهرها، واحتشد فيها الكثير من عناصر الجمال اللغوي، فجاءت اللغة شاعرة تمرح فيها الصور والمجازات والعبارات المشحونة بالنفس المتوهج والألفاظ الموحية المعبرة عن بيئة الرواية في حميمية رائعة، فيما ينمو الحوار في قدرة مدهشة ومنطقية دون افتعال أو اعتساف ليصل إلى النتيجة الطبيعية لمستويات الحوار لدي أشخاص الرواية محافظا على الخصوصية الفكرية والثقافية والاجتماعية لديهم، فتجد لغة الصوفي ذات الإيحاء والرمز ومقامات الوجد. ولغة الوجيه صاحب الأملاك والإدارة والعزوة والكلمة النافذة. وتجد لغة الحكمة ورجاحة العقل ممن صفت أرواحهم أوعركتهم التجارب. ولغة الموتور الذي لا ينفك يلهث وراء نداء الشر مطلقا لهواه العنان. وتأتي هذه المستويات لتزيد إحساسنا بأن أشخاص هذه الرواية ليست أشخاصا ورقية وإنما هي شخصات حية من لحم ودم.

أما السرد: فيأتي محللا ومستبطنا لأغوار النفس ودقائق الشعور وكاشفا لنوازعها ورغباتها، أو مصورا البيئة الزمانية والمكانية في عبارة تحمل الكثير من الإيحاء والكثافة الدلالية مشحونة بوهج العاطفة، وخفق المشاعر من خلال مفردات وأساليب ارتوت وتغذت من بيئة الرواية، وتشبعت برائحتها.

والحقيقة أن الكاتب برع في بعث الحياة والتدفق في البيئة التي هي مسرح الأحداث بالرواية، مما جعلنا نشعر بأنها بعض أشخاص الرواية تتجلى لنا فاعلة ومؤثرة في مجريات الأحداث ونابضة بالحياة. والكاتب في كل ذلك لا نلمحه أونشعر به مما يجعلنا ننسى أننا نقرأ رواية مسطورة، ولكننا أمام حركة أحداث حقيقية، ونحن شهود عليها.

أما عن الحبكة والعقدة: تتعدد العقد والحبكات في الرواية وذلك ناتج عن امتداد الرواية في الزمان والمكان وتناولها أجيالا متعددة. والجدير بالذكر أن الحبكة والعقدة تنمو بصورة طبيعية نتيجة لنمو الحدث وتشابكه، ليصل إلى قمة التأزم، ثم تنفك العقدة بعد ذلك بفنية عالية وخبرة بنواميس الحياة وصروفها في لغة تغذي الشوق لدى المتلقي لتوقظ كل مشاعره وحواسه وأفكاره، ليرقب إلام تؤول الأحداث، ويجد نفسه في النهاية وقد وجد في الرواية نافذة يطل منها على الحياة بكل صروفها وتقلباتها يرى المصائر والأقدار والضعف الإنساني أمام القدر وعواصف الحياة وأنوائها يرى الإنسان في جهاده المتصل يقاوم صروف الدهر العاتية فينجح مرة ويخفق أخرى وتلك ميزة الكاتب الكبير.

وأخيرا تأتي أهمية هذه الرواية في أنها:

1 ـ توثق لنا تاريخ الإنسان المصري ومسيرته الحضارية على ضفاف النيل عبر حقبة طويلة من الزمن تناهز الأربعمائة عام فهي بمثابة فيلم وثائقي مسطور.

2ـ تبث الرواية في اللغة من روح التجديد والإبداع مما يكسب اللغة طاقة تجعلها قادرة على مجابهة المتغيرات والهجمات التي تريد النيل من حيويتها وروحها الوثابة.

3 ـ تعرض صورة للصراع بين الخير والشر تجعلنا ندرك حقيقية جلية وهي أن الحق لابد له من قوة تحفظ وجوده وتمنعه من براثن الشر وأن نظل على حذر من الشر مهما أوغل في الكمون فهو ما إن تواتيه الفرصة حتي يطل من مكمنه متحينا فرصة الانقضاض على الخير.

تلك إطلالة مقتضبة على هذا العمل الإبداعي أرجو أن أكون قد وفقت فيها.

علاوة على ذلك، يمكن القول إن الرواية ليست مجرد سرد للأحداث بل هي تأمل عميق في النفس البشرية، حيث تتجلى مشاعر الأمل واليأس، الحب والكراهية، في سياق متشابك يعكس واقع الحياة. كما أن الشخصيات ليست مجرد رموز بل تجسد تجارب إنسانية حقيقية تعكس صراعات الفرد في المجتمع.

في النهاية، تظل “ملحمة المطاريد” نافذة على الحياة، تلقي الضوء على ما يعانيه الإنسان من صراعات داخلية وخارجية، مما يجعلها قراءة ضرورية لكل من يسعى لفهم أعماق النفس البشرية وتحديات الواقع.