انتهيت من قراءة رائعة عمار على حسن “ملحمة المطاريد” الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة في ثلاثة أجزاء. إنها سيرة خمسة قرون عبر ستة عشر جيلا. زمن يمتد ويرنو لنفس الزمن فى إمتداده. موت وميلاد، كل يولد من الآخر. تناسل دائم، وانقطاع حلم، وغضب بشر ودواب. رخاء وشدة.
هي ملحمة قائمة بذاتها، اغتنم الكاتب عدة حقب من الإنصات والابحار والتأمل والتيه بدأها بالعنوان “المطاريد” وهو اسم الملحمة، ثم الإهداء إلى “أهل قرية الوصلية التى أكلها النيل فى فيضانه قبل قرن فهرب أهلها بالحكايات، وحين غرسوها فى صفحات الأيام ، وصلت إلى مسامعنا نحن الأحفاد”، وكأنه أحدهم.
واصل الكاتب أسطورة كبرى “بينما أقدامنا تدب فى شوارع قرية جديدة أسموها الإسماعيلية تعيش الآن وديعة مجهدة وسط الصعيد” فأعاد لها بهاءها المخزون فى حكايات الأجداد القادمين والعابرين للأزمان، ليصنعوا المطاريد.
الدكتور عمار علي حسن، الروائي والباحث في علم الاجتماع السياسي.
رضوان بن ناجى بن جعفر بن منصور بن خيرالدين بن مهدي بن مالك بن عطا الله بن سالم بن غنوم بن وهدان بن رضوان بن عبد القيوم بن خليفة بن عرفان بن سداد، تتوالى الأسماء وتنطلق الملحمة فى طريقها الذى لا يترك للقارئ فرصة لالتقاط الأنفاس، حيث يأخذنا الكاتب بدون هوادة، من أجواء العصرين المملوكي والعثمانى بسماتة الاجتماعية وروائحه القديمة، إلى قيام ثورة 1919. وتنفتح تلك الفترة التى يتضافر فيها قوى الشر للقضاء على البقية الباقية من مقدرات الشعب من نهب واستغلال هى نفس فترة التأهب بالذات الوطنية حتى وصل بنا الكاتب بالحملة الفرنسية مروراً بعصر محمد على والاحتلال الانجليزى على مصر.
المفتاح الأول:
1 ـ الأقدام الغليظة التى تدوس العشب لن تعيق نموه طالما المطر ينهمر.
2 ـ غلق النوافذ لن تمنع الرياح من الانطلاق إن جاء أول هبوبها.
3 ـ الستائر السوداء السميكة لن تحرم نور النهار من معانقة الغرف الحبيسسة.
4 ـ الزمن يجرى ويجرف أمامه كل شئ لكنه لا يقدر على تبديد الحكايات. هنا يتسم الأسلوب الأقرب إلى الشعر الموزون، ومعه لا أستطيع أن أقاوم إرتجالى الشعرى حتى لو كان دون المستوى. أعلم أن كتاب الواو من إبداع وجه قبلى. بداية من ابن عروس وصديقي وحبيبى الشاعر الكبير عبد الستار سليم وكاتب هذه الملحمة عمار على حسن الذى كان من نصيبها أشعار من فن الواو لقوالين الربابة. لكن واستلهاما من الملحمة سأبدع أشعارا موازية من فن الواو:
يدوس العشب غدار .. قاصد وكاره وجوده.
نزل المطر أنهار .. فاض بكرمه وجوده.
***.
ملايين سنين بتفوت .. من عند بدأ الخلايق.
فى ناس تولع قلوب .. وناس تطفى الحرايق.
***.
ربطوا عنيا بستارة .. وفاتونى واقف بحيرتى.
طلع النهار بالإشارة .. نورلى شوفى وبصيرتى.
***.
الحياة بدأت بروح … مجهولة فيها النهاية.
الناس بتيجى وتروح .. مش باقى غير الحكاية.
المفتاح الثاني:
وهي الحديقة، وكنت أظن أن ملحمة المطاريد تسير على خطاها، ولكن الحديقة عمل منفصل بذاته انتهى مع الفيضان، ولن يتبقى منها إلا صاحبها الرجل الصالح الذى أنقذ “رضوان” إكراما لجده الأكبر، الذي كان له سر عظيم، فهو كان أمهر جندي فى جيش منتصر، فلما بغى الجند خالفهم، ولم يرضى أن يلطخ سيفه بدم أحد.
ترك الرجل الصالح “رضوان” عند الصخرة، وسلمة للمجاذيب مع صرر من النقود ووصية.
استطاع رضوان الصابر كما أسماه المجاذيب أن يؤسس نجع المجاذيب من أراض وبيوت ورهط كبير من الأبناء وأصحاب المهن الفلاحين والنجارين والحدادين والمنجدين والمزينين .. الخ.
دويلة صغيرة داخل وطن فيها المسلم والمسيحى واليهودى، ثم يسلم الراية لابنه وهدان الذى حافظ على ميراث أبيه، بل زاده من الأراضى، وأورثه إلى غنوم، الذى حدث فى عهده فيضان جديد، لكنه استطاع أن يعوض الناس عن الخسائر، ويبنى لهم قرية حديثة أسموها الصابرية فى وجود عائلة الجوابر ممثلة فى ابراهيم الجابر ويونس الجابر، ويبدأ الصراع بين العائلتين الصوابر والجوابر على النفوذ والثروة والموطن.
يخطف يونس الجابر ابن غنوم الرضيع سالم وبعد فشل محاولات غنوم لإعادته، وموت الخاطفين، والتمثيل بيونس حتى الموت، وجد المخطوف سالم مطارد آخر من ثأر وهو عويس وزوجته روحية ومعه خبيئة النقود ذهب به إلى البلاد البعيدة إلى زاوية أخرى اشترى له أراضى الالتزام وبنى له القصور وأتى بشيخ ليحفظه القرآن وحصل على الكثير من الفقه والتجويد والسير والشعر، وعلمه مبادئ الحساب على يد خولى الإلتزام ساعده ذلك على إدارة أملاكه بعد وفاة عويس.
وعلم سالم أنه من عائلة الصوابر وأبيه غنوم الصابر وزوجة أبيه بديعة وأخوه ربيع والصابرية موطنه، ولكن بعد وفاة أبيه غنوم خان الصوابر عمه سلامة خيانة القائد لجيشه، حيث تعاون مع درويش الجابر طمعأ فى بديعة زوجة غنوم من آل بخيت خدم الصوابر. واستطاع درويش أن يستولى على أراضيهم وقصورهم، حتى وصلت الحال إلى تسمية قرية الصابرية إلى الجابرية وبدأت رحلة المطاريد الصوابر.
إن رحلة المطاريد الدامية التى تقشعر لها الأبدان، وتدمع لها الأعين، هي تجسيد لرغبة بشرية، باحثة عن فكرة تعمير الأرض فى كل محطة من محطات الترحال المتوالية. ويبقى الصراع بين الصوابر والجوابر أصل البقاء، فتظل الأرض والحياة قائمة. تبعثر الصوابر فى البلاد والجبال، وبنايات المحروسة. عملوا فى مهن كثيرة: الزراعة، وتربية المواشي والأغنام، والبحث عن الذهب فى الصخور، وزراعة الأعشاب بألوانها، وتجارة الأقمشة. أجيال تسلم أجيال لإستعادة موطنهم الأصلى، ولم ينسوا وصية أسلافهم الصوابر.
قاوم الصوابر جند المماليك في معركة فرضت عليهم، وقتل منهم الكثير. لم يتبق منهم إلا مهدى ومحمد سعدالله، هروبا من جحيم الالتزام، فلجأ مهدى إلى الفلاتية المعتصمين بالجبل، وبثقافته وفكره استطاع أن يسطو على قصر الطوبجى الذى استولى عليه من الصوابر، وبناه جده سالم، وحصل على الثروة المخبأة، ليحافظ بها على وجود الصوابر، ثم أورثها للأبناء حتى وصلت إلي ناجى بن جعفر بن منصور بن خير الدين بن مهدي عالم من علماء الأزهىر المعدودين، وأحد أركان الصفوة الثقافية والاجتماعية فى حاضرة البلاد.
ومع إنشاء السكة الحديد استطاع ناجى أن يجمع الصوابر من البلاد، واستطاع أن يغير اسم الجابرية إلى الصابرية. لكن الصراع بين الصوابر والجوابر لم ينته، إذ قام أحد رجال الجوابر بخطف رضوان بن ناجى، لتبقى النهاية مفتوحة ربما يكون لها بقية.
هكذا وجد الكاتب نفسه مسكونا بالسواد الأعظم من بنى قومه، وقضية تمس الواقع اليومى لبنى جنسه، وتاريخ يشمل التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يعيشها وطنه. وقع تحت إلحاح شديد نحو قضايا مصيرية تلعب دورا فى تشكيل الإنسان، ثم يوجهها نحو منظور معين.
بهذا تعد “ملحمة المطاريد” تعبيرا عن نظرة شاملة إلى الحياة الاجتماعية المصرية عبر خمسة قرون. إن الكاتب هنا يطوق واقعا بخياله، مارا بأجيال وتواريخ وسياسات وحكومات، ويجمع كل هذا فى عمل روائى واحد، ما يدعوني إلى أن أقول بحقه مربعا من فن الواو أيضا:
عمار سكن العمار .. والعرس قبله خطوبة.
بنى لنفسه معمار .. ولا حد ناوله طوبة.
في الختام أقول إن “ملحمة المطاريد” واحدة من أهم الروايات التى صدرت فى الوطن العربى إن لم تكن أهمها.
تظل هذه الرواية شاهداً على التحولات التاريخية والاجتماعية التي مر بها المجتمع المصري، وتعكس كيف أن الأفراد يمكن أن يكونوا جزءًا من ملحمة أكبر. من خلال شخصياتها، نرى كيف تتداخل الحكايات الشخصية مع التاريخ، مما يخلق عملاً أدبيًا غنيًا.
في النهاية، “ملحمة المطاريد” ليست مجرد رواية، بل هي رحلة عبر الزمن، تعيد لنا ذكريات الأجداد وتاريخهم، وتفتح أمامنا آفاقاً للتأمل في الحاضر والمستقبل.