ليلة انطفأت فيها مصر رقميًا.. حريق سنترال رمسيس يُعيد البلاد إلى «عصر ما قبل الإنترنت»

ليلة انطفأت فيها مصر رقميًا.. حريق سنترال رمسيس يُعيد البلاد إلى «عصر ما قبل الإنترنت»

في مساء الاثنين، 7 يوليو 2025، وبينما كانت القاهرة تسير في روتينها المعتاد، تفاجأ ملايين المصريين برسالة واحدة على هواتفهم: “عذرًا، نحن خارج الخدمة”، لم تمر دقائق حتى بدأ الذهول يتحول إلى قلق، ومع توالي الساعات، اتضح أن الأمر أبعد بكثير من مجرد “عطل تقني”. فالحريق الذي اندلع في سنترال رمسيس، أحد أقدم وأهم مراكز الاتصالات في مصر، لم يكن مجرد حادث، بل تحول إلى أزمة وطنية أوقفت شرايين الحياة الرقمية والاقتصادية في البلاد.

النيران تأكل قلب الاتصالات

سنترال رمسيس، الذي يمثل نقطة ارتكاز رئيسية لشبكات الاتصالات والإنترنت في القاهرة الكبرى، تعرض لحريق ضخم، شوهدت أعمدته الدخانية تتصاعد من قلب العاصمة، ومع كل محاولة من رجال الإطفاء لإخماد الحريق، كانت النيران تعود للظهور، لتأكل مزيدًا من البنية التحتية الدقيقة.

انهيار رقمي شامل: خدمات بنكية وشبكات واتصالات خارج الخدمة

مع امتداد الحريق، بدأت البلاد تشهد أزمة غير مسبوقة في الاتصالات وخدمات الإنترنت، تبعتها مباشرة حالة من الشلل في المعاملات البنكية، سواء من خلال ماكينات الصراف أو تطبيقات الهاتف، ما تسبب في تعطيل مصالح الآلاف، وأوقف تعاملات مالية حيوية.

سارة نجيب، موظفة بإحدى الشركات الدولية، قالت لـ«بلد نيوز»: “كنا في منتصف اجتماع مهم مع إدارة خارجية، وفجأة انقطع كل شيء. الإنترنت، الاتصال، حتى واتساب.. كأننا انفصلنا عن العالم فجأة”.

أما نبيل سيف، صاحب سوبر ماركت في المهندسين، فأوضح: “أكتر من 70% من الزباين بقوا يدفعوا بفيزا، يومها كنت مضطر أقولهم خدوا الطلب وارجعوا ادفعوا بعدين.. ربنا ستر”.

من قلب الأزمة: “مش لاقي أجيب لبن للطفل”

عشرات القصص المؤلمة خرجت من قلب هذا الانهيار، أبرزها قصة أحمد شوقي، والد لطفل رضيع، قال: “نزلت الساعة 11 بليل أدور على صيدلية يكون عندها لبن أطفال.. معييش كاش، والتطبيقات وقفت.. قعدت ألف بالعربية ساعة ونص لحد ما لقيت واحد موافق ياخد مني تحويل لما الشبكة ترجع”.

وفي منشور على منصة X، كتبت الصحفية دعاء الجوهري: “وقفت تاكسي، واتفقت معاه على الأجرة، ولما وصلنا ماشتغلتش المحفظة الإلكترونية.. الراجل قال لي: معلش، ربنا يعوض… ده إحنا في أزمة”.

ويقول راضي راضي في منشور على “فيس بوك”: “في بداية الحريق، الشغل وقف، فقررت أنزل أتغدى في واحد من المطاعم في الدقي، وأنا كعادتي، مش ماشي بفلوس كاش. طلبت أكل وقعدت مستريح، لحد ما جالي تليفون من صاحبي بيقولي: كل البنوك واقعة والمكن مش شغال”.

وأضاف أنه حينها بدأ يُدرك أن شيئًا جللًا يحدث، خاصة أن دخان الحريق في رمسيس كان قد بدأ يصل إلى سماء الدقي، ويمكن رؤيته بالعين المجردة. وبعد الانتهاء من الطعام، لاحظ أن كثيرًا من الزبائن في المطعم يحاولون الدفع بالبطاقة، لكن بلا جدوى، فكل الأجهزة متوقفة، وحتى ماكينات الـATM في الشارع لا تعمل.

وتابع: “بعد محاولات استمرت أكتر من نص ساعة، مدير المطعم خد القرار: ‘الدنيا مطارتش، اتفضلوا امشوا، ولما الدنيا تهدى ابقوا ابعتوا الفلوس’… ورغم اعتراض بعض العمال، الراجل أصر، ومشيت وأنا لا أعرف اسمه، ولا هو يعرفني”.

ولم يتوقف اليوم عند هذا الحد، فقد أكمل أحمد عمله ثم ذهب إلى اجتماع آخر، ثم التقى بأصدقائه في أحد المقاهي، جميعهم يعانون من نفس المشكلة: “اللي معاه كاش حاسب للكل”، يقول “شعراني”: ثم أكملوا ليلتهم ظنًا أن الأزمة انتهت.

لكن المفاجأة كانت في رحلة العودة، إذ لم تكن هناك أي ماكينة سحب تعمل، وحين وصلت سيارة “اندرَرايف” التي حجزها، حاول إبلاغ السائق بعدم تمكنه من دفع الأجرة.

“قلت له آسف، مش هعرف أكمل، معيش فلوس كاش خالص، لكنه رد وقالي: ‘وهتروح ازاي؟ احنا في نص الليل’… حاولت أصر على إلغاء المشوار، قالي: ‘اركَب بس، الدنيا مطارتش، ومينفعش أسيبك متسوح كده.. ابقى ابعتلي الفلوس لما تشتغل الشبكة”.

وينهي راضي قصته بتأمل صادق: “لما كنت بقابل سوريين بيقولوا شعر في كرم المصريين، كنت بقول بيبالغوا، لكن النهاردة أنا كلت وشربت وركبت ومادفعتش جنيه.. مش لأن الناس أغنيا، لكن علشان البلد دي فيها ناس بتقف جنب بعض في الأزمات، وبتعرف معنى الإنسانية”.

الاقتصاد يتلقى صدمة: الشلل يطال التجارة والإعلام

لم تقتصر الأضرار على الأفراد فقط، بل امتدت إلى قطاعات التجارة الإلكترونية، الإعلام، والتوصيل الذكي، فقد أوقفت شركات كبرى تعاملاتها مؤقتًا، والمواقع الإخبارية عجزت عن تحديث محتواها أو تلقي الأخبار العاجلة.

كريم الهواري، مسؤول الدعم الفني في إحدى الشركات التقنية، قال: “كأننا رجعنا لعصر البريد الورقي.. مش عارفين نبعت إيميل ولا نستقبل طلبات العملاء.. الاتصالات الداخلية نفسها متوقفة”.

مشاهد إنسانية وسط الأزمة

ورغم الظلام الرقمي، أضاءت بعض القصص جوانب مشرقة للروح المصرية. أحد المقاهي في وسط البلد أعلن عبر لافتة ورقية: “اللي معهوش كاش يشرب القهوة ويرجع يدفع بعدين”، بينما قام صاحب مخبز في شبرا بتوزيع الخبز مجانًا على الأهالي، قائلًا: “الناس محتاجة تأكل.. إحنا ولاد بلد واحدة”.

الطالبة ريم عبد المجيد كتبت على “فيسبوك” بعد عودة الشبكة: “كان عندي امتحان شفوي أونلاين.. الأستاذ كلمني لما الشبكة رجعت وقال لي: أنا هعيدلك الامتحان في أي وقت يناسبك”.

هل آن الأوان لإعادة التفكير في البنية التحتية الرقمية؟

الأزمة طرحت سؤالًا محوريًا حول مدى اعتماد مصر الكامل على التكنولوجيا في إدارة الحياة اليومية دون وجود بدائل فعالة عند الطوارئ، كما سلطت الضوء على هشاشة البنية التحتية الرقمية أمام الأزمات.

وفي بيان لاحق، وعدت وزارة الاتصالات بإجراء مراجعة شاملة لأنظمة الحماية والسلامة الفنية في السنترالات، مشيرة إلى أن العمل جارٍ لإعادة الخدمة تدريجيًا خلال الأيام القادمة.

تجدد هذه الأزمة النقاش حول أهمية الاستثمار في تقنيات جديدة لتعزيز البنية التحتية. من الضروري أن تكون لدينا خطط بديلة متاحة لضمان استمرارية الخدمات في الأوقات الحرجة.

يجب أن نتعلم من هذه التجربة ونعمل على تحسين استعدادنا لمواجهة أي طارئ في المستقبل، مما يعكس مدى قدرتنا على التكيف مع التحديات.